لطالما بقيت الشعوب العربية غابطة في لقمة عيشها، فإن الحرية والعدالة ستكون حتماً عوامل ثانوية، ولربما الحديث عن القبضة الهلامية بتكميم الأفواه عبر سن القوانين وإصدار التشريعات التي تقيد حرية الرأي والتعبير، وهذا مخالف لمواد الاعلان العالمي لحقوق الانسان ومعاكس لاتجاهات الدولة في الإصلاح الشامل.
إن حبس الصحفيين، ما هو إلا استيلاء كامل على حريتهم وسلب إرادتهم نحو العيش الكريم، وممارسة مهنتهم دون إيماءات وإملاءات تساهم في الضغط على قلمهم والتأثير على رأيهم. لا نستغرب من هم العبقريون الذي ساهموا في سن قوانين الجرائم الإلكترونية، وتضييق الخناق على الصحفيين، لربما طمعا بمنصب أو تزلف سلطوي نحو البقاء، هؤلاء الفهلويون هم من احتنضتهم السلطة ومن ربتهم شيكات ومغلفات “الاحتواء الناعم” ومن أرضتهم المناصب المزدوجة، و امتلأت بطونهم بسمك “السلمون” المطهو على نار الرياء والنفاق والتزلف، لتحصيل المنافع، ومن التصقت مؤخراتهم بجلد المقاعد الفاخرة في افخم مطاعم وفنادق عمان، ليكتبوا ما يملى عليهم، في الوقت الذي كان ابن “كرمة العلي” يفترش الحصيرة تحت أشجار الزيتون ليفكر جليا ماذا يكتب من أجل تجنب مقص “حارس البوابة”، و ليتجنب “منع من النشر”.
ربما تغريداته قبل أكثر من عام أزعجت وايقظت مسؤولين لم يرقى لهم كتاباته المتتالية، فهو لسان الشعب وقلم الأمة، هو ناطق باسم المواطن البسيط، عدو الفساد، مناهض الفاسدون والحرامية، هو لم يحرض على الشر وهو ليس كما يوصف من قبل منافسيه في الكتابة، وممن انتقدهم، وممن ازعجهم قول الحقيقة، هو واحدا من اصدق ما كتب، واول كاتب ساخر يدخل عقل المواطن الأردني، بل العربي،لم يجابه يوما الحقيقه ولم يكن يوماً في صف يعاكس الوطن والمواطن، فهو ابن “الوطن الاصلي” وليس ابن المجنس، لا يكتب ليعتاش كما يفعل البعض، بل الكثير، هو يكتب وجع الوطن والمواطن حينا يغزوه برد الشتاء ويفتقر للتدفئة، كان الأجدر بتكريمه، لا سمح الله، وليس ملاحقته عاماً كاملاً، إلا أن تم القاء القبض عليه أمام عائلته. اكتب لاحمد الحسن، وهو في زنزانته.
ورغم معرفتي الشخصية ولقائاتي المتكررة منذ 15 عاما، فهو يأسرك بكاريزميته وشخصيته وابتسامته، ويحتويك بكلامه، اشترك معه كثيراً، واشترك معه في المنطقه ابن لوائي الرمثا وحوران، وكيف لا نشترك في سنابها وطينها، وفي الصحافة اذا سمح لنا أن نسميها صحافة، او اذا سمح لنا الانضمام إلى هذه المهنه، ربما انقطع أعواماً واعود أعواماً، لكنها “الضريبة”، واي ضريبة تدفع!. قابلت احمد الحسن، او ابن “كرمة العلي” كما كان يطلق على نفسه، قبل أن يزيل اللثام عن قصة “كرمة العلي”ويفصح عنها، رحمها الله، كان البعض يعتقد أنها محبوبته،وهي كذلك، وكان البعض يعتقد أنها شخصية من وحي الخيال أو “كاريكاتورية”، إلا إنها كانت واقعية، نعم واقعية، كان يطلب منها أن تغطيه، “غطيني يا كرمة العلي”، ماذا لو انها هنا “كرمة العلي” وعرفت بالقاء القبض على ابنها البار، ووضعه في السجن، كيف ستنام لياليها، كما نحن الآن، عندما أفصح عنها بمقال، سرد قصصاً مليئة بالاستغراب، عن فضول متابعينه وإصرارهم على معرفتها، ولا احد يفهم ذلك إلا من كان يتابع مقالاته، ولربما وصل الأمر بكثير من الأشخاص لشراء “الرأي” من أجل قراءة مقاله الساخر،الذي كان ينشر يومي، باستثناء ما يملي على رئيس التحرير مقص الرقابة، ولربما أن نسيمه مقص “الخوف”.
كنت اشتريها يومياً من أجل قراءة مقالته، بالتوازي مع الدستور حينما أكنت انشر في ملحق شبابها. قابلته مرات عديدة، وأجريت معه مقابلات صحفية نشرت بعضها ورقي والآخر الكتروني، في بداية عصر الصحافة الإلكترونية، كنت طالبا جامعياً في السنة الثانية، وطلب مني واجبات عملية لمادة “المقابلة الصحفية”، اتصلت فيه، رحب في بشكل مبهر، لا اعرفه ولا يعرفني، تقهقهنا وقتها بصوت مرتفع، حددنا الزمان والمكان، أصر على دفع الفاتورة وعارض بشدة، طلب ارجيلته وقهوة وجلسنا أمام المارة بكافيه”العصملي” على دوار جامعة اليرموك، وانتهت المقابلة بصفحات الدفتر لتارشف، وتبقى خالدة في الذاكرة والارشيف، ما لم يلتهمها الهجران، ومن ثم عدلت وحررت ونشرت بالصفحة الاولى من “صحافة اليرموك” و ” المشهد” و “شباب الدستور”، ولربما أن لم تخني ذاكرتي على بعض المواقع الإلكترونية. في نهاية المقابلة، وعدته أن ارسل إلى بيته في الرمثا، حيث يسكن، إلا أنه ولعدم توفر سيارة لدي، طلب أن أعطي النسخ إلى شقيقه، وهو مدرس في “اليرموك” وكان آنذاك، مساعدا لرئيس الجامعة، ولا يختلف كثيراً عنه، وأصر على دعوتي لندواته الساخرة في المستقبل، ولبيت غالبيتها، ونشرت تلك الندوات، وكان مرحا وناصحا للجميع.
تعلمت منه كثيراً، ورافقته لمنتديات في الصحافة، ركبت سيارته الكيا ون، ذات اللون الباذنجاني، وبعدها لم أكمل هذا الطريق الوعر، وتحولت إلى العمل الخاص، قبل أن أعود مجدداً. توفيت كرمة العلي في صيف 2014، ذهبت معزيا في الرمثا، حيث اسكن في قراها، وقدمت الواجب وكان مصدوما وغير واعيا على ذلك، ولربما لم يعرفني، ولم نتواصل منذ ذلك الحين، هو بقي يقارع “السلطة” في الفرن وذهبت لمقارعة “الفروج” في الشواية. احمد الحسن، كتب عن “فقدان الأم”، وهو من كانت الآلاف تنتظره كل 21 آذار من كل عام، ليكتب لنا عن الأم، في عيدها، هو كان يكتب ويكتب بقلمه… الآلاف تذرف دموعهم، نعم دموعهم، وكانوا يلومونه ما الذي فعلته بنا، كيف لك أن تفتح مواجعنا، ربما هؤلاء شامتون الآن به، وغيري الكثير، اذا سمحت لنا الفرصة، سنطالب بمحاكمته على تجييش مشاعرنا، واللعب بأوتار الحنين الى الأم، اعترف ان ذلك يفترض أن لا ينشر، ولا يكتب، لكنها المشاعر وارتجاف القلم، وهرارة الدموع، أنها الأم، وكيف لنا أن نسد هذا الدين، حفظ الله امهاتنا واطال الله أعمارهن، ورحم الله من رحلت عن هذه الحياة. من منكم لا يعرف احمد الحسن، عليه البحث عبر غوغل، و “سواليف” تحت خانة منع من النشر ومقالات تاريخ 21/3 من كل عام، ثقوا تماما ستعرفون أنه صادق وأمين، ولربما لا يريد الدنيا، ويريد الآخرة، ولا نزكي على الله أحدا.
“غطيني يا كرمة العلي مافيش فايدة” كانت هذه الجملة مشهورة، ومشهورة جدا، قبل أن تتحول الشهرة إلى جيب الانفلونسرز والتيكتوكر، وبلوغر الطعام، وهم يعرضون أعراضهم من أجل جمع اللايكات والمتابعين، “كرمة العلي” لقد حملت في طياتها كثير من الطرائف، هي والدته “شيخة العواد” قرأت مقالته ذات مرة عندما أفصح وأزال اللثام عن “كرمة العلي”، وبعدها قالت له “غطيني يا احمد الحسن، عزرت علي بالجرايد” أليس فيكم رجل رشيد؟ ماذا يقول أطفاله وكيف يسألون، عما حصل لوالدهم، وماذا ستكون الإجابة، حقا إنها مراوغة لهم، هل يتم إجابتهم بأنه خصخص مؤسسات الدولة، لا لا، ربما قام بتهريب المخدرات والسلاح من الحدود القريبة من بيته، كما يفعل أصحاب الأموال الطائلة، والبطون المنتفخة. امل أن يقتنعوا أطفاله بالإجابة عن مصير ابيهم، وكيف للولد أن يستغني عن حب أبيه؟.
لا اعرف كثيراً مداخل ومخارج المحاكم، ولكن لربما نصح بأن لا يخرج من مدينته، وحسبما اذكر عقد جلسة تضامنية في عمان وكان مشاركا فيها، عبر تقنية الاتصال المرئي من بيته، كان هنالك متضامنون، كما يتضامنون خلال هذه الأيام، كنت مشغولا كثيراً، تركت كل شئ وشاهدت البث المباشر، أوجعني ذلك، وما زاد الوجع ألما، بعد لقاء التضامن، وإذ بخبر لندوة عقدها كاتب مأجور، ويعمل مستشاراً لهيئة حكومية وكاتبا في جريدة، ومدربا في معهد ما، كيف هي الحياة غير عادلة، إن لم تكن ذنباً للسلطة، او لم تكن لاعقا لأحذية المسؤولين، او ماسح الجوخ أصحاب الاموال، فإنك حتماً تتصارع من أجل البقاء، وتصارع من أجل لقمة العيش، ولكنك تعيش في كرامة، ولا تبقى تحت دائرة الذل، ولمن يعرف معنى الكرامة، سيفهم معنى هذه الكلمات، ودلالاتها.
ذات يوم عاتب احمد الحسن أحدهم، وطلب منه أن يكون كما بطل روايته، ونصح شاعراً أن يكون كالذي يمدحه، هو ناصحاً، ولا يخاف…. كثير النصح، متعاطفا مع أبناء جلدته، لديه روح الاحساس بالغير، تجده في صف المعلم وقت اعتصاما للمطالبه بحقوقهم، وتجده في صف المدافعين عن حقوق المواطنين، إن بقيت لهم حقوق. هو كاتب “ساخر”، يفترض أن يتلقى الدعم الكامل، اذا احترمنا فئة الكتاب والمثقفين والصحفيين، لا أن يبقى تحت سطوة المسؤولين، هو ليس طامع بمنصب ولا يهمه تسلم إدارة مؤسسة إعلامية أو ثقافية، كما يحلو للبعض، وكما فعل غالبيتهم، هو سيف الحق، ومناصر المظلومين، ومتحدث باسم الشعب الكادح.
لا تخذلوا شرفاء الوطن، لان ليس لدينا سوى القليل القليل، هم أمثالنا ونتشارك الطينة، لا تخذلونا، اعتصموا، طالبوا بإطلاق سراحه، على الأقل وأضعف الإيمان غيروا صور بروفايلاتكم على الفيسبوك، بصورته او صورة “كرمة العلي”، زوروه في سجنه، حيث يقع بجانب زنزانته أصحاب تهم تجار المخدرات والسلاح والمهربين، وتجار البشر. سأكتب مرة ثانية، عن لياليه في السجن، و سأعمل ما أستطيع عليه، وما يقدره الله، ليس لأجله، لأجل لم يتبقى مدافعون عن الحق، و من أجل “كرمة العلي” وابنائه.