لا تكاد تخلو مناظرة أو تجمعاً انتخابياً للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، من هجوم على سياسات الهجرة الأمريكية، متذرعاً بعبارته الشهيرة بل والأثيرة إنه «لدى أمريكا الملايين من المهاجرين الذين يتدفقون من السجون والمعتقلات والمصحات العقلية بعد أن تطردهم بلادهم»، ورغم ما يشوب هذه العبارة من تضخيم معتاد لترامب كإحدى طرقه لكسب الجماعات اليمينية، فيبدو أن لهذه العبارة أصلاً في التاريخ الأمريكي الحديث.

ويظهر التدقيق حول كلام دونالد ترامب، إلى واقعة صاحبت بداية صعوده في الحياة العامة الأمريكية، أواخر سبعينات ومطلع ثمانينات القرن الماضي، إذ بدأ بزوغه داخل أوساط النخبة كمستثمر عقاري صاعد، وفي هذه الأثناء حدثت واقعة سفينة مارييل البحرية التي أنشأها الزعيم الكوبي فيدل كاسترو عام 1980.

ـ قرار كاسترو المفاجئ
في يوم 4 إبريل / نيسان عام 1980 أعلن كاسترو بشكل مفاجئ في هافانا أن أي مواطن كوبي يرغب في الهجرة إلى الولايات المتحدة يمكنه المغادرة من ميناء مارييل القريب طالما أنهم رتبوا ليصطحبهم شخص ما على متن قارب وينقلهم إلى فلوريدا.
وعلى الفور هرع المنفيون الكوبيون في الولايات المتحدة إلى كي ويست وإلى أرصفة السفن في ميامي لاستئجار القوارب، وخلال الأشهر التالية، فر نحو 125 ألف كوبي إلى فلوريدا في حوالي 1700 قارب مكتظ، ما أدى في بعض الأحيان إلى إرباك قوات خفر السواحل الأمريكية وسلطات الهجرة.
واختار معظم لاجئي مارييل العيش في منطقة ميامي، ما أدى إلى زيادة عدد السكان الكوبيين العاملين في تلك المدينة بنسبة 20%.
لكن سرعان ما أثار جسر الهجرة مشاكل سياسية للرئيس آنذاك جيمي كارتر، إذ تبين أنه تم إطلاق سراح بعض المهاجرين من السجون والمصحات العقلية في كوبا، وتحت الضغط الشعبي قامت الإدارة الأمريكية بنقل بعضهم إلى مخيمات اللاجئين، في حين تم احتجاز آخرين، كانوا يواجهون جلسات استماع للترحيل، في السجون الفيدرالية، وإجمالا اعتبر 2% من هؤلاء المهاجرين مجرمين خطرين.
واتفقت واشنطن وهافانا على أن النزوح الجماعي سينتهي في 31 أكتوبر/تشرين الأول 1980، وكان عام انتخابات رئاسية في الولايات المتحدة، إذ تمكن في الشهر التالي المرشح الجمهوري رونالد ريغان من هزيمة الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر في فوز ساحق، حال دون حصوله على ولاية ثانية.

ـ معدلات الجرائم
بالنظر إلى قول ترامب إن معدلات الجرائم تنخفض في دول العالم، مقارنة بأمريكا، بسبب الهجرة غير الشرعية، فتقول هيلين فير، الباحثة المشاركة في معهد أبحاث سياسة الجريمة والعدالة في بريطانيا: إن الأرقام مستمرة في النمو. وفي عام 2013، كان هناك 10.2 مليون شخص في السجون على مستوى العالم، وارتفع هذا العدد إلى 10.77 مليون في عام 2021، وفقا لصحيفة واشنطن بوست.
ومنذ فترة طويلة حاول ترامب إثارة المخاوف بشأن الهجرة. وهو الآن يضاعف جهوده مع احتدام السباق الرئاسي مع غريمته كامالا هاريس، وذلك من خلال ادعاءات بوجود قوافل مليئة بالمجرمين والمغتصبين تتجه نحو الحدود الجنوبية لأمريكا.
وفي يوليو/تموز، بلغ عدد الاعتقالات على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة ما يزيد قليلاً عن 56 ألف شخص، وهو أدنى مستوى منذ الأرقام القياسية في ديسمبر/كانون الأول، عندما عبر حوالي 250 ألف مهاجر.
ـ شكاوى ديمقراطية
وفي رد فعل على زيادة كبيرة على الحدود في عامي 2022 و2023، اشتكى رؤساء البلديات والمحافظون الديمقراطيون بصوت عالٍ من تأثير المهاجرين في مدنهم وطالبوا علناً بإنفاذ قوانين الهجرة بشكل أكثر صرامة. وقال إريك آدامز، عمدة نيويورك الديمقراطي قبل عام: «دعوني أخبركم شيئاً، يا سكان نيويورك، لم أواجه قط في حياتي مشكلة لم أر لها نهاية – لا أرى نهاية لهذا»، وذلك في إشارة إلى التدفق الهائل للمهاجرين الفقراء إلى مجتمعه، محذرا من أن هذه «القضية سوف تدمر مدينة نيويورك».
ودفعت هذه الشكاوى بايدن وهاريس إلى دعم فرض قيود جديدة صارمة على الحدود، بما في ذلك بعض الإجراءات التي سعى ترامب إلى تنفيذها خلال فترة رئاسته. لكنه الآن، يذهب إلى أبعد من ذلك، حيث يدعو إلى عمليات ترحيل جماعية ويقول إن المدن الأمريكية قد استسلمت بالفعل لـ «الغزو» الذي توقعه منذ فترة طويلة.
في الواقع، تحول كلا الحزبين السياسيين في الولايات المتحدة إلى اليمين، الأمر الذي جعل العديد من الناشطين في مجال حقوق المهاجرين يشكون من أن البلاد تتخلى عن دورها الطويل الأمد كحامية للنازحين في جميع أنحاء العالم.
ـ سياسة رابحة
يقول حلفاء ترامب إن موقفه المتشدد بشأن الحدود يمثل استراتيجية رابحة. وأوضح رون فيتيللو، الرئيس السابق لحرس الحدود الأمريكية وإدارة الهجرة والجمارك خلال إدارة ترامب: «إن ذلك يعزز قوته.. أنت تعلم أنه سيصلح هذه المشكلة إذا تم انتخابه كما فعل في المرة السابقة». وقالت أماندا باران، التي عملت كمسؤولة في الأمن الداخلي خلال إدارة بايدن، إن ترامب كثف لغته لأغراض سياسية بدلاً من محاولة إيجاد طرق لإصلاح ما يتفق الكثيرون على أنه نظام هجرة معطل بشدة.
ورفض المسؤولون الفيدراليون والمحليون فكرة السماح لملايين المجرمين بدخول الولايات المتحدة، كما أن برنامجاً مثل ذلك الذي يسمح للهايتيين بالعيش في الولايات المتحدة بشكل مؤقت تتطلب الأمن القومي والتدقيق الجنائي قبل الموافقة على دخولهم إلى البلاد، في الوقت الذي نفى ناشطون أنهم يأكلون لحوم القطط والكلاب، كما قال ترامب في المناظرة.
ويواصل ترامب وحلفاؤه تصوير الظروف البائسة على الحدود الجنوبية داخل الكونغرس ومقرات الولايات وإعلانات الحملات الانتخابية، وصعّدوا من استخدامهم لمصطلح «الغزو» لوصف الهجرة.
ولا يزال الإنفاق على مثل هذه الإعلانات من قبل الجمهوريين والجماعات المحافظة الأخرى ينمو، إذ تضاعف ثلاث مرات تقريباً ليصل إلى 106 ملايين دولار في أغسطس، مقارنة بـ 37 مليون دولار في الشهر السابق. في حين تقول بياتريس لوبيز، نائبة مدير مركز الهجرة وكبيرة المسؤولين السياسيين، في بيان إن الديمقراطيين تنازلوا عن هذه القضية لفترة طويلة جداً، ما أدى إلى تخليهم عن ميزة حاسمة.

Shares: